الحث على الوصية قبل الموت لغير الورثة
قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ الَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) [البقرة/180، 181]
فَرَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَيكُمْ يَا مَعْشَرَ المُؤْمِنينَ أَنَّهُ إذا
حَضَرَتْ أَسْبَابُ المَوْتِ وَعِلَلُهُ ، وَتَرَكْتُمْ مَالاً كَثِيراُ
لِوَرَثَتِكُمْ أَنْ تُوصُوا لِلوَالِدَينِ وَذَوي القُرْبَى بِشَيءٍ مِنْ
هذا المَالِ ( لا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ إِذا لَمْ يَكُنِ المُوصَى
لّهُمْ مِنَ الوَارِثِينَ فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ ، وَجَوَّزَ بَعْضُ
الأَئِمَّةِ الوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِأَنْ يَخُصَّ بِها بَعْضَ مَنْ
يَرَاهُ أَحْوَجَ مِنَ الوَرَثَةِ ) . وَإِذا أَسْلَمَ الكَافِرُ
وَحَضَرَتْهُ الوَفَاةُ ، والدَاهُ كَافِرَانِ ، فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ
لَهُمَا بِشَيءٍ يَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُما . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذلِكَ
الإِيصَاءَ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ . (
وَقِيلَ إِنَّ هذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيةِ المَوَارِيثِ ) . وَإِذا
صَدَرَتِ الوَصِيَّةُ عَنِ المُوصِي كَانَتْ حَقّاً وَاجِباً لاَ يُجُوزُ
تَغْيِيرُهُ وَلاَ تَبْدِيلُهُ ، إِلاَ إِذَا كَانَتِ الوَصِيَّةُ
مُجَافِيةً لِلعَدْلِ ، فَمَنْ بَدَّلَ الوَصِيَّةَ - سَواءٌ أَكَانَ
وَصِيّاً أَوْ شَاهِداً - أَوْ حَرَّفَها فَغَيَّرَ فِي حُكْمِها وَزَادَ
فِيها أوْ أَنْقَصَ أَوْ كَتَمَها ، فَإِثْمُ التَّبدِيلِ يَقَعُ عَلَى
الذِينَ يَقُومُونَ بِهِ ، وَيَقَعُ أَجْرُ المَيِّتِ عَلَى اللهِ ،
لأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ المَيِّتُ ، وَعَلِمَ بِهِ
وَبِمَا بَدَّلَهُ المُوصَى إِلَيهِمْ . وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوالِ
المُبَدِّلِينَ وَالمُوصِينَ ، وَيَعْلَمُ نِيَّاتِهِمْ ، وَيُجَازِيهِمْ
عَلَيهَا . فَإِذا خَافَ الوَصِيُّ خُرُوجَ المُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ عَنْ
نَهْجِ الشَّرْعِ وَالعَدْلِ خَطَأً أَوْ عَمْداً ، بِأَنْ زَادَ فِي
حِصَّةٍ ، أَوْ أَنْقَصَ فِيها . . . وَتَنَازَعَ المُوصَى لَهُمْ
بِالمَالِ فِيما بَيْنَهُمْ ، : أَوْ تَنَازَعُوا مَعَ الوَرَثَةِ ،
فَتَوسَّطَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بِذلِكَ ، وَأَصْلَحَ بِتَبْدِيلِ هذا
الحَيْفِ وَالجَنَفِ ، فَلا إِثْمَ عَلَيهِ فِي هذا التَّبدِيلِ ،
لأَنَّهُ تَبْدِيلُ بَاطِلٍ بِحَقٍّ ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ ، وَيُثِيبُهُ
عَلَى عَمَلِهِ .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ
بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِالَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي
بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ الَّهِ
إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِالَّهِ
لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ
بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا الَّهَ وَاسْمَعُوا وَالَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } [المائدة/106-108]
قِيلَ إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مَنْسُوخٌ . وَلَكِنَّ الأَكْثَرِيَّةَ
مُتَّفِقَةٌ عَلَى أنَّهُ مُحْكَمٌ . وَهَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ حُكْمَ
مَنْ تُوُفْيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ -
وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوْلِ الإِسْلاَمِ ، وَالنَّاسُ كُفْارٌ ، وَالأَرْضُ
أَرْضَ حَرْبٍ - وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالوَصِيَّةِ ، ثُمَّ
نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ ، وَفُرِضَتِ الفَرَائِضُ ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا .
فَإِذَا ظَهَرَ أنَّ الشَّاهِدَينِ قَدْ خَانَا الأَمَانَةَ ، أَوْ غَلاَّ
شَيْئاً مِنَ المَالِ المُوصَى بِهِ إلَيْهِمَا ، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ
الوَرَثَةِ المُسْتَحِقِّينَ لِلْتَّرِكَةِ ، وَلْيَكُونَا مِنْ أَوْلَى
مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ المَالِ ، فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ
الآخَرَيْنِ ، وَإنَّ قَوْلَنَا إنَّهُمَا خَانَا أحَقُّ بِالقُبُولِ ،
وَأَصَحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا المُتَقَدِّمَةِ ، وَمَا اعْتَدَيْنَا
فِيمَا قُلْنَا فِيهِمَا مِنَ الخِيَانَةِ ، وَإنْ كُنَّا كَذَبْنَا
عَلَيْهِما وَافْتَرَيْنَا إذَاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ رَجُلاً تُوُفِّي وَأوْصَى بِتَرْكَتِهِ إلَى
ذِمِّيَّيْنِ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ ، وَلَمَّا سَلَّمَا المَالَ إلَى
أَهْلِ المَيِّتِ أنْكَرَ أهْلُ المَيِّتِ ، وَرَفَعُوا أمْرَهُمْ إلى
أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ ، فَأرَادَ أبُو مُوسَى أنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا
بَعْدَ صَلاةِ العَصْرِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهُمَا لاَ
يُبَالِيَانِ صَلاَةَ العَصْرِ ، وَلَكِنِ اسْتَحْلَفْهُمَا بَعْدَ
صَلاَتِهِمَا المُقَرَّرَةٍ فِي دِينِهِمَا .
وَيَقُولُ الإِمَامُ قَبْلَ أنْ يُحَلِّفَهُمَا : ( إنْ كَتَمْتُمَا أوْ
حَنَثْتُمَا فَضَحْتُكُمَا فِي قَوْمِكُمَا ، وَلَمْ نُجِزْ لَكُمَا
شَهَادَةً ، وَعَاقَبْتُكُمَا ) ثُمَّ يُحَلِّفُهُمَا . فَإذَا قَالَ
الإِمَامُ لَهُمَا ذَلِكَ ، وَحَمَلَهُمَا عَلَى الحَلْفِ أمَامَ النَّاسِ
بِالأَيْمَانِ المُغْلَّظَةِ ، كَانَ ذَلِكَ أقْرَبَ السُّبُلِ إلى أنْ
يُؤَدِّيا الشَّهَادَةَ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ ( أدْنَى أنْ يَأتُوا
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) .كَمَا أنَّهُ قَدْ يَكُونُ الحَامِلَ
لَهُمَا عَلَى الإِتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ ،
هُوَ تَعْظِيمُ الحَلْفِ بِاللهِ ، وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ وَإِجْلاَلُهُ ،
وَالخَوْفُ مِنَ الفَضِيحَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، إنْ رُدَّتِ اليَمِينُ
عَلَى الوَرَثَةِ ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَدَّعُونَ . (
أَوْ يَخَافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمَانٌ بَعْدَ أيْمَانِهِمْ ) .ثُمَّ يَأمُرُ
اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ أمُورِهِمْ ،
وَيَأمُرُهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَبِأنْ لاَ يَحْلِفُوا
أيْمَاناً كَاذِبَةً .وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ .أدْنَى أنْ يَأتُوا
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا - أقْرَبُ إلَى قَوْلِ الحَقِّ وَالصِّدْقِ
فِي الشَّهَادَةِ